- المسألة الثانية: سبب تعظيم الذنب في هذا الشهر.
الذنوب في هذا الشهر مضاعفة، والسبب أن الاصطفاء والاختصاص موجب لمضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات، سواء كان الاختصاص في الأشخاص، أو الأمكنة، أو الأزمنة:
- فالله تعالى اصطفى واجتبى نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا الاختصاص سببا في مضاعفة حسناته، ونيله أجورَ من عمل بهديه، لا ينقص من أجورهم شيئا، حتى صار أعلى الناس درجة، كذلك أخبره الله –تعالى- أن ما يكون منه من خطإ؛ فعقوبته مضاعفة، وحاشاه ذلك، لكنَّ هذا بيان شرعي لأحكام أهل الاجتباء والاختصاص، قال –تعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾؛ أي: ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.
ومثل هذا ما جاء من خطاب في حق أمهات المؤمنين زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم، قال –تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾.
فهن قد اصطفاهن الله –تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، فلهن من الحظ والنعمة ما ليس لغيرهن في الإيمان والدرجة والعيش في بيت النبوة، فلا يليق بهن العصيان، كما أن ثواب طاعتهن مضاعف.
- والحكْم نفسه ينطبق على الأمكنة المختصة بالشرف والحرمة؛ مثل مكة، فالأعمال فيها أعظم من غيرها، فالصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة فيما سواه، وكذا الذنب هو فيها مضاعف؛ قال –تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
- والحكم نفسه يُعمل به في الأزمنة المشرفة المحرمة؛ كشهر رمضان، ودليل حرمته النصوص الدالة على عظمته، وبيان عظم الثواب فيه، ورحمة الله عباده فيه، وفتح أبواب الجنة، وغلق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين، واختصاصه بليلة هي خير ألف شهر، فالحسنات فيه -إذن- مضاعفة، وإذا ثبتت مضاعفة الحسنات فذلك دليل على مضاعفة السيئات أو تعظيمها؛ لما سبق من أن التضعيف في حال الاختصاص والاجتباء يكون في الحسنات، ويكون في السيئات.
ثم إنه مع ذلك: قد نص الدليل على عظم الذنب في رمضان، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى قوما معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل دماؤهم، فسأل عنهم، فقيل له: (الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) [ابن خزيمة، صحيح الترغيب 1/420].
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي وقع على امرأته نهار رمضان بأعظم الكفارات، وهي كفارة القتل والظهار عتق رقبة، فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكينا، وغلظ الكفارة من غلظ الذنب، وقد استوجبها لما واقع حليلته –زوجته- في نهار رمضان، في الوقت المحرم، فدل هذا على أن الذنب في رمضان ليس كغيره، وإذا كان هذا التشديد والوعيد والعقوبة في حق من انتهك الشهر مع حليلته، فكيف بمن انتهكه مع حليلة جاره أو مع أجنبية لا تحل له؟!